غريبةٌ هي قصَّتي معه، قرَّرت يومًا لأسبابٍ كثيرة أن أحبَّه، فجَعَلت
فيه كلَّ منافذ الخلاص، لَم أَجْرؤ على الذَّهاب إليه، لكنِّي بَقِيتُ
دهرًا من عمري أنتظره، وأدعو الله أن يُعجِّل بمجيئه إليّ، تمنَّيتُ كثيرًا
أن أُواجهه، أن أنظرَ إليه دون خوفٍ ودون حزنٍ، وأن أمدَّ إليه يدَي قبل
أن يمدَّ إلي يدَيه، كنتُ أدعوه في قَرارة نفسي: "صديقي"؛ لأَمْحوَ عنه
كلَّ هيبةٍ، كنتُ أتقرَّب إليه في أحلامي؛ حتى أصبَح أقربَ إليِّ من
الدنيا، حتى إني كتبتُ له ذات يوم قصيدتين؛ لأَستعجلَه بعد أن طال انتظاري.
مضَت سنواتٌ كثيرة من عمري وأنا أنتظرُه، كنتُ على يقينٍ أني كنتُ على
استعدادٍ للقائه، وكنتُ أستغرب من الذين كانوا يَخافون حضوره، كنتُ أعتبره
صديقي، كم بَكَيتُ؛ لأنَّه لَم يهتمَّ بي يومًا، ولَم يَعْبأ لدموعي وطول
انتظاري، وكأنَّه كان يَملِك من الأمر شيئًا!
غريبة هي قصَّتي معه، بعد عمرٍ مديد من الانتظار، وعلى غير موعدٍ - اقترَب
مني، ودون مقدِّمات نزَل ظلُّه إلى ساحتي، وحاصَرني من كلِّ الاتجاهات،
علَّمني كيف يكون الألَم، وكيف يكون الحزن والخوف، هزَّني وجودُه قُربي،
ضغَط على أنفاسي، حرَّك الأرض من تحتي، وغرْبَل الناس من حولي، كان في كلِّ
يومٍ يُعلِّمني درسًا جديدًا دون كلامٍ، كم كان قُربه مؤلِمًا!
وحْده ظلَّ يجول في عالَمي، وانقَشَعت سحائبُ الوَهْم من حولي، فما عُدتُ
أرى سواه، وحْده ظلَّ يسكنني بحُرْقة، كان عذابًا يكاد لا يُطاق، اكْتَشَفت
أنَّه لَم يكن صديقي، وأنِّي لَم أكن على استعدادٍ للقائه، وكلُّ
الاعتقادات السابقة حوله كانتْ خاطئة
كيف اعْتَقَدت سنوات جنوني أنَّي أستطيع أن أُصادقَه؟!
كان من المُمكن أن يأخذني معه، لكنَّه لَم يفعل؛ أكيد لأنَّه لَم يُؤمَر بذلك بعدُ، كم كان مُخيفًا قُربه مني!
أدْخَلني الممرِّض إلى قناة الأشعَّة بعد أن شدَّ وثاقي، ووضَع
السَّمَّاعات على أُذني، وأمَرني بحَزْمٍ ألاَّ أتحرَّك أبدًا، سَمِعت صوته
يأتيني من بعيدٍ، تخيَّلت الأموات في قبورهم، كيف أنَّهم يسمعون أصوات
الناس، ووَقْع نِعالهم وهم يَبتعدون عنهم بعد أن يَفرغوا من دَفْنهم، وكانت
قناة الأشعة أمامي تُشبه القبر، وتُرِكتُ كالأموات وحدي في القاعة، أنتظر
قرارَ الآلة.
هل اقترَب موعد الرَّحيل مع مَن كنتُ أعتقده صديقي؟ أم لا يزال من العُمر مُتَّسع؟!
وتُرِكتُ في عُزلتي وحيدة، تَنهشني الأفكار والعواطف، دقائق مضَت عليّ
وكأنَّها قرنٌ من العذاب، تُوقع كل لحظةٍ منها نبضات القلب الخائف، وغربان
الأفكار السوداء، عادَت إلى الذَّاكرة سنوات العُمر الضائعة، كم كانت
تافهة! وأحيانًا كثيرة بلا معنًى، كيف اعْتَقَدت أنَّ رصيدَها يَكفيني
للقائه؟ وكيف كنتُ أتمنَّى مَجيئه؟ كم كانت ساذَجة كلُّ تلك الاعتقادات!
عادَت إلي في لحظات سنوات عمري المديد، تُقطِّع أشلاءَها، وتَصرخ في جنون؛ حسرةً، وندمًا، ورُعبًا.
تقدَّم الممرِّض نحوي بعد دَهرٍ من العذاب الصامت، ودون أن ينظرَ نحوي انْهَمك بفكِّ وثاقي، ثم فجأة أعلَن:
- سيِّدي كنتِ تتحرَّك كثيرًا!
أنا كنتُ أتحرَّك؟ لا سيِّدي، إنَّك لا تعلم، لَم أكن أتحرَّك، كنتُ أرتعشُ
رعبًا وفَزعًا، ألَم تعلمْ أنَّ ذاك الذي كنتُ أعتقده صديقي، كان قريبًا
مني، وأنِّي أنتظرُ قرار آلتك ؛ لأتحقَّق من موعد الرَّحيل معه، هل اقتربَ
أم لا؟
سيِّدي لَم أكن أتحرَّك، كنتُ خائفا بكلِّ بساطة، ليس منه بالتَّحديد، ولكن
قُربه مني، جعَلني أكتشفُ أني لستُ مُستعدا للقاء خالقه وخالقي، أني لَم
أشترِ الزاد الذي يَكفيني للسفر معه، وهو الذي يكون السفر معه على انفرادٍ
وبلا عودةٍ، وبلا فرصةٍ في أيِّ مزيدٍ!
صديقي القديم، لستُ على استعدادٍ للرحيل معك، لا أَكْرهك أبدًا، وليس ذلك
من حقِّي، ولكني أحتاج للمزيد من الوقت للاستعداد؛ لأُحبَّه أكثر،
لأُفَضِّله عمَّا سواه؛ حقيقةً لا ادِّعاءً، حبًّا وطواعيةً، سرًّا
وعلانيةً، فوحْده يستحقُّ الحب الصادق، والوفاء الخالص.
ماذا عنكم، أنتم الذين تقرؤون الآن هذه الاعترافات ؟
هل أنتم على استعدادٍ للقاء مصيركم المُنتظر؟